وثائق الرعب

بيروقراطية جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية السورية

مقدمة ومنهجية

لم تدخر الحكومة السورية فرصة إلا وأنكرت فيها علناً مسؤوليتها عما يحصل من انتهاكات لأحكام القانون الدولي، وهي رواية تدحضها بعض الوثائق الحكومية التي حصل عليها المركز السوري للعدالة والمساءلة وأجرى تحليلاً لمحتوياتها، فضلا عن بعض مقاطع الفيديو التي توثّق تلك الانتهاكات وتثبت ارتباطها بالحكومة بشكل مباشر. ولا يقف الأمر عند حد معرفة المسؤولين السوريين بارتكاب تلك الانتهاكات كما يتضح من خلال الأوامر الصادرة والتقارير الواردة في تلك الوثائق، إذ توثق مقاطع الفيديو بوضوح إعطاء أولئك المسؤولين الأوامر، والتخطيط لها ومعاقبة من يفشل في تنفيذها. وعليه، تعرض هذه المصادر مجتمعة الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة السورية، وتُرسي الأسس اللازمة لملاحقتها جنائيا.

كما حرصت الحكومة السورية طيلة فترة النزاع على بذل الجهود لإخفاء تلك الوثائق أو التخلص منها، لا سيما الوثائق التي كانت تخشى وقوعها في يد المعارضة. ونظراً لأهمية تلك الوثائق بوصفها دليلاً على الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة السورية، عمل المركز السوري للعدالة والمساءلة على إنقاذ الآلاف منها؛ إذ أجرى المركز تحليلاً لأكثر من 18٫000 وثيقة تم رفعها على برمجية "بيانات" التابعة للمركز والتحقق من صحتها، وذلك أثناء  التحقيق  الذي أُجري عام 2018.

ويورد هذا التقرير تفاصيل أربع وقائع حصلت في سوريا بين عامي 2012 و2013، تخللها إلحاق أذى بالغ بالمدنيين، واستهداف المنشآت المدنية، وذلك وفقاً لما يتوفر من أدلة المصادر المفتوحة. وتمكن محللو المركز السوري للعدالة والمساءلة من ربط كل واقعة بوثيقة واحدة على الأقل تصف تلك الواقعة، سواءً أكانت هجوما أم قصفا جويا نُفذ بأمر صادر من الحكومة. وتوفر هذه الوثائق دليلاً على أن الحكومة تعمدت استهداف منشآت/نشاطات ليس لها أغراض عسكرية، أو أنها أساءت تقدير طبيعة تلك الهجمات بعد وقوعها (على سبيل المثال، ادعت الحكومة مقتل أعداد كبيرة من "الإرهابيين" في هجماتها، على الرغم من أن جميع الإصابات الموثقة كانت في صفوف المدنيين فقط).

التحليل القانوني

يشكّل استخدام الحكومة السورية للقوة المميتة على نحو تعسفي ضد الشعب السوري، والذي خلف خسائر في الأرواح، انتهاكاً لالتزاماتها المتعددة الناشئة بموجب أحكام القانون الدولي. وعلى سبيل المثال، لم تكن هناك "ضرورة قصوى" تسوّغ استخدام القوة المميتة لردع المظاهرات السلمية في داعل (الواقعة الأولى)، فضلاً عن أن استخدامها لم يكن متناسبا مع تلك المظاهرات السلمية. ويعد استخدام الحكومة السورية القوة المميتة على ذلك الوجه تعسفيّاً، كونه لا يستوفي أي بعد من أبعاد مشروعية استعمال القوة بما فيها مراعاة إجراءات العناية الواجبة حسب الأصول. وبهذا تكون الدولة السورية قد أخلت بالتزاماتها تجاه القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتُعد مسؤولة عن الحرمان التعسفي من الحق في الحياة لهؤلاء الضحايا.

تشكل الهجمات الموثقة في هذه الحالات انتهاكاً لأحكام القانون الدولي الإنساني النافذ، حتى ولو كانت مرتبطة بالنزاع المسلح الدائر. ووفقاً للأدلة المتوافرة بشأن الحقائق على الأرض والوثائق الرسمية التي حصل عليها المركز السوري للعدالة والمساءلة، فإن الهجمات التي شنتها الحكومة ضد المدنيين والأعيان المدنية كانت هجمات متعمدة، ولم يكن الضرر الناجم عنها عرضيا لا سيما وأن قوات الحكومة السورية نفذت ضربات مباشرة استهدفت مدنيين لم يشاركوا في أعمال القتال، وأعيانا مدنية محمية بموجب أحكام القانون الدولي الإنساني. وتشكل تلك الهجمات المتعمدة انتهاكاً لمبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي الإنساني، ألا وهو مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، فضلاً عن كونها محرمة بموجب القوانين النافذة، وترقى إلى مصاف جريمة حرب. وعلاوة على أن تلك الانتهاكات تشكل مخالفة لالتزامات الدولة ومسؤولياتها، فهي تحمل في ثناياها أيضا مسؤولية جنائية تطال كامل عناصر تسلسل هرم القيادة. وعليه، فمن الممكن ملاحقة جميع المسؤولين عن إعطاء الأوامر بشن الهجمات، والتخطيط لها، وتنفيذها بموجب أحكام القانون الدولي، ومن ضمنهم القادة أو المسؤولون الذين تقاعسوا (ولو من باب الإهمال أو السهو) عن منع ارتكاب مثل تلك الانتهاكات.

الواقعة الأولى: الاحتجاج في داعل

Click on the top right box to interact with the map

حلّل المركز السوري للعدالة والمساءلة أحد أدلة المصادر المفتوحة الذي اتضح من خلاله استهداف مسجد الهجرة في داعل بمحافظة درعا بالقذائف الصاروخية في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، وأسفر عن سقوط قتلى وجرحى بين المدنيين. وتزامن ذلك الهجوم مع احتجاج وقع في التاريخ نفسه بمناسبة "جمعة نصرة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية المشكل حديثا".

ويتضح من تحليل اثنتين من الوثائق الحكومية أن الاحتجاج الذي انطلق تأييداً للائتلاف الوطني قد كان مقرراً في التاريخ نفسه لوقوع الهجوم. وأُرسلت إحدى الوثيقتين المؤرخة في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 من فرع الأمن السياسي في درعا إلى قيادة الفيلق الأول، وتورد الوثيقة المرسلة قائمة بالمواقع المقترحة لانطلاق الاحتجاجات داخل بلدة داعل، كما تورد أسماء الميادين التالية على وجه التحديد: ثائر العاسمي - الجمعية، ونسيمة، والهجرة، والدخانية، وعمار.

وذُيلت تلك الوثيقة بالملاحظة الآتية بخط اليد: "تعميم على الجميع، قوات داعل، فور حصول ما ورد [أي الاحتجاج] تدقيق الموقع و اعطاء الاحداثيات للفرقة الخامسة للتصرف فوراً". ومن الجدير بالذكر أن الفرقة الخامسة المؤللة مزودة بالآليات والدبابات وقطع المدفعية، ويعني ذلك ضمنياً أنه ينبغي اللجوء إلى القوات المسلحة في قمع المظاهرات.

وأما الوثيقة الثانية المؤرخة في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، يخبر كاتبها قائد الفيلق الأول أنه من المقرر أن تنطلق الاحتجاجات يوم الجمعة من مختلف المواقع في محافظة درعا، وذلك بعد صلاة الجمعة. وتشير الوثيقة إلى أن ذلك اليوم أصبح يُعرف باسم "جمعة دعم الائتلاف الوطني المشكل حديثا [لقوى المعارضة]". كما ذُيل النص المطبوع بالملاحظة التالية بخط اليد: "تعميم على الجميع منع ذلك [الاحتجاجات] بأي وسيلة و عند الضرورة استخدام ..... خاصة في بلدة داعل ..... فوراً فوراً ... مع التجمع إن حصل"، بالإضافة إلى أن النقاط التي تليها كناية عن الحذف، هي تعليمات باستخدام القوة المميتة للحيلولة دون حصول المظاهرات.

وتُظهر بعض مقاطع الفيديو استهداف مسجد الهجرة في داعل بعدد من الصواريخ، وذلك بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر، وهو ما يمكن نسبته إلى قوات الحكومة السورية، حيث يظهر في العديد من مقاطع الفيديو المصورة في ذلك التاريخ حصول انفجارات بالقرب من مسجد الهجرة. فمثلاً، يعرض  هذا المقطع  وقوع انفجار تزامناً مع مرور أحد المدنيين، كما يظهر مسجد الهجرة بوضوح في خلفية الصورة.

ويعرض  مقطع  آخر مصور في التاريخ نفسه مشاهد الفوضى التي أعقبت الانفجار إثر محاولة المدنيين استخدام مركباتهم الخاصة لإخلاء المصابين.

وبحسب أحد الأشخاص الذي يمكن سماع صوته في هذا  المقطع  والذي يعرض آثار الانفجار، جرى استهداف مسجد الهجرة بصاروخ تزامنا مع مغادرة جموع المصلين المسجد بعد صلاة الجمعة، الأمر الذي أسفر عن سقوط كثير من الجرحى (وبعض الإصابات الحرجة)، وعدد من القتلى.

واستناداً إلى المقاطع أعلاه، تحقق محللو المركز السوري للعدالة والمساءلة من أن الانفجار قد وقع على مقربة من مسجد الهجرة [إحداثيات الموقع: [(32.75680463732396, 36.132226522814165)]، ومن "ميدان الهجرة" أيضاً (يظهر الموقعان بوضوح أدناه في الصورة الملتقطة بواسطة القمر الصناعي). وقد أقيمت صلاة الجمعة في تمام الساعة 12:20 ظهراً من ذلك اليوم، وهو الوقت الذي جرى فيه تصوير ذلك المقطع، وذلك بحسب قياسات الظل الظاهرة في المقطع. ومن الجدير بالذكر أن "ميدان الهجرة" قد ورد في الوثيقة الحكومية الأولى المشار إليها أعلاه، من بين جملة المواقع الأخرى المحتملة لانطلاق الاحتجاجات.

ووفقاً لمقطع الفيديو ومركز توثيق الانتهاكات، ثمة شاب يدعى علاء العطفي من بين الإصابات، ويظهر في  ملف بياناته  الذي أعده المركز أنه "استشهد جراء استهداف المصلين بصاروخ أثناء مغادرتهم أحد مساجد داعل"، وذلك بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2012. ويظهر في بضع  منشورات  أخرى على منصة فيسبوك استهداف المنطقة بثلاثة صواريخ سقط أحدها جنوب المسجد، فيما سقط الآخر على مقربة من مدخله، وأصاب الثالث أحد المحال القريبة من المسجد.

وخلال الأعوام الأولى من النزاع السوري، كانت الحكومة على علم بانطلاق الاحتجاجات عموما من المساجد عقب انتهاء صلاة الجمعة. ولذا فمن المرجح أن يكون استهداف أحد المساجد بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر محاولة لمنع انطلاق المظاهرة في ذلك اليوم. وعلى الرغم من تكرار استهداف قوات النظام والفصائل المؤيدة له الاحتجاجات بالقذائف الصاروخية أو المدفعية، استمرت أعمال التظاهر عموما. كما يظهر في  مقطع فيديو آخر  جرى تسجيله في اليوم نفسه لاندلاع احتجاج مؤيد للائتلاف المشكل حديثا، وذلك بالقرب من ساحة نسيمة بداعل الذي ورد ذكره في قائمة المواقع المحتملة لانطلاق الاحتجاجات منها وفقا لما جاء في الوثيقة.

وتُعد هذه الواقعة مهمةً كونها من أوائل الوقائع التي أصدرت بخصوصها الحكومة السورية وثائق تقضي باستخدام القوة المميتة ضد الاحتجاجات السلمية، وذلك على النقيض من الوثائق القديمة التي وردت فيها الإشارة إلى استخدام القوة من باب التورية من قبيل استخدام عبارة "إجراء اللازم". وبالنظر إلى  تحليل سابق  أجراه المركز السوري للعدالة والمساءلة بخصوص بعض الوثائق الصادرة عن أجهزة قطاع الأمن، يتضح من خلال ما يرد فيها من توجيهات الإيعاز باستخدام القوة المميتة، ولكنه جاء إيعازا صريحا في هذه المرة.

الواقعة الثانية: مشفى البر

أصدر فرع الأمن العسكري في محافظة حمص، والمعروف باسم "الفرع 261"، وثيقة بتاريخ 17 حزيران/يونيو 2012، توعز باستهداف موقعين اثنين بنيران المدفعية أو بالقصف الجوي، وتورد الوثيقة موقع مشفى البر في الرستن كأحد الهدفين كونه يعالج "الجرحى من عناصر الجماعات الإرهابية المسلحة".

ويظهر في أسفل تلك الوثيقة توقيع مشفوع بكلمة "موافق" بتاريخ 17 حزيران/يونيو. ووفقاً للبحث الذي أجراه محققو المركز في المصادر المفتوحة، اتضح أن صاحب التوقيع على الوثيقة هو "مسؤول الجيش والأمن في محافظة حمص" حينها،  اللواء رفيق محمود شحادة ، والذي شغل لاحقاً منصب رئيس إدارة المخابرات العسكرية (خلفا لعلي مملوك).

وردت مزاعم في بعض مقاطع الفيديو المسجلة تفيد بأن قوات النظام استهدفت مشفى البر الكائن في الرستن بتاريخ 19 يونيو/حزيران، أي بعد يومين من صدور التقرير. وتعرض مقاطع فيديو مفتوحة المصدر والمسجلة من داخل المشفى وخارجه بوضوح ما خلفه الهجوم من انفجارات، وضحايا، وجرحى (بينهم طفل) داخل المشفى. وحدد محققو المركز السوري للعدالة والمساءلة الموقع الجغرافي للواقعة استناداً إلى المعالم الظاهرة في المقطع، والتفاصيل الواردة في الوثيقة الحكومية ذات الصلة بموقع مشفى البر؛ إذ حددت الوثيقة بدقة موقع المشفى مستخدمة الوصف الآتي: "على الجهة المقابلة للمصرف الزراعي من الناحية الغربية عند الإحداثيات الآتية: "34.92385985952852, 36.73084726802849".

وفيما يلي المعالم الظاهرة في أحد مقاطع الفيديو، والذي تم تسجيله خارج المشفى بتاريخ 19 حزيران/يونيو. ويزعم مصور المقطع بأن قوات النظام تقصف مشفى البر بالمدفعية.

وبإسقاط المعالم السابقة على مواقعها في الخريطة، يتضح أن أوصاف الموقع مطابقة للمنطقة المستهدفة.

وقال مصورو  مقطع  آخر جرى تسجيله داخل المشفى إن الحكومة "تقصف المشفى الميداني في الرستن بتاريخ 19 حزيران/يونيو 2012" بقذائف المدفعية والهاون، مضيفين أن "المشفى مليء بالجرحى والشهداء". ومن الممكن سماع دوي عدة انفجارات بوضوح في المقطع، ومشاهدة جثث ملفوفة بالبطانيات.

وأما  المقطع  الثالث المسجل بتاريخ 19 حزيران/يونيو، يزعم فيه المصور أن طفلاً قد أصيب جراء قصف المشفى "من قبل جيش النظام"، إذ بالإمكان مشاهدة الطفل وهو ينزف جراء إصابته بعدد من الجروح. ومن الممكن أيضاً سماع دوي الانفجارات بوضوح في المقطع، وصوت المصور قائلاً إن المشفى يتعرض للقصف بقذائف الهاون، والدبابات، والطائرات.

ويظهر في المقطع الرابع والأخير، والذي تم تسجيله بتاريخ 19 حزيران/يونيو 2012 داخل المشفى، جثة رجل وقد بدت آثار الإصابة واضحة عليها مع إمكانية مشاهدة بركة الدماء أسفل النقالة التي يرقد عليها (يرجى العلم بأنه جرى تمويه الوجه من الصورة عمداً). وبالإمكان أيضاً سماع دوي الانفجار الأولي بوضوح.

وقبيل لحظات من وقوع انفجار آخر، وانطفاء الأنوار، كشف المصور عن اسم المتوفى، قائلاً إن المشفى الميداني في الرستن يتعرض "للقصف بقذائف المدفعية والدبابات".

ووفقاً للأدلة المتوافرة من المصادر المفتوحة التي عمل المركز السوري للعدالة والمساءلة على تحليلها، فتح المشفى أبوابه لتقديم العلاج للضحايا من المصابين في الهجوم وبينهم أطفال. ولكن، تُظهر الوثيقة موقف الحكومة من الأمر بوضوح، إذ تذرعت بوجود "جرحى من عناصر الجماعات الإرهابية المسلحة" داخل المشفى كمسوغ لاستهدافه. وبموجب القانون الدولي الإنساني، تتمتع المشافي المستخدمة لتقديم الرعاية للمقاتلين بالحماية، لأن الغرض من تقديم العلاج في هذه الأحوال هو لأغراض إنسانية وليست عسكرية. وعليه، يرقى هجوم الحكومة على المشفى في هذه الحالة إلى مصاف جريمة حرب.

الواقعة الثالثة: تفتناز

شنت الحكومة بتاريخ 5 أيلول/سبتمبر 2013 سلسلة من الغارات الجوية على تفتناز بمحافظة إدلب، مما أسفر عن سقوط عدد من الإصابات، بينهم عدد كبير من المدنيين. وتزعم إحدى وثائق الحكومة السورية المؤرخة في 6 أيلول/سبتمبر 2013 بأن الغارات الجوية التي شنتها في 5 و6 أيلول/سبتمبر قد أجهزت على أكثر من "120 إرهابيا" في تفتناز، دون أن تحدد الوثيقة الموقع الجغرافي الدقيق لتلك الهجمات.

وبتاريخ 5 أيلول/سبتمبر،  نشرت  لجان التنسيق المحلية خبراً مفاده "سقوط عدد كبير من الجرحى جراء قصف بالطائرات الحربية" على تفتناز.

وتعرض مقاطع أخرى من مختلف المصادر الضربات الجوية التي توالت على تفتناز بتاريخ 5 أيلول/سبتمبر 2013، وآثار الدمار الذي خلفته فيها. ومن الممكن استخدام هذه المقاطع لتحديد الموقع الدقيق للضربات.

واستناداً إلى المقاطع الثلاثة، تمكن المركز السوري من تحديد الموقع الجغرافي للضربات، وفيما يلي إحداثيات الموقع (المنطقة الملونة بالأحمر أدناه): "36.00353970970222, 36.78269584853155".

ويعرض  مقطع  آخر مسجل في اليوم نفسه استهداف غارة جوية لموقع آخر في تفتناز.

واستخدم المحققون المعالم المذكورة أعلاه للتعرف على الموقع المستهدف في الصورة أدناه، علماً بأن إحداثيات الموقع هي: "35.995643298664, 36.78887726176424 "، فيما يظهر الموقع باللون الأحمر في الصورة.

ونشر مركز توثيق الانتهاكات أسماء 20 شخصاً ما بين مدني ومقاتل قضوا في الضربات الجوية على تفتناز بتاريخ 5 أيلول/سبتمبر، واتضح أن واحدا فقط في صفوف القتلى كان من عناصر الجيش السوري الحر. وأودى الهجوم بحياة 4 نساء، و10 رجال، و5 أطفال، جميعهم من المدنيين.

تحذير: بعض الروابط تحتوي على محتوى صادم

أعد أحد المواطنين الصحفيين، والذي يعمل لصالح منظمة "مراقبة وكالة الأنباء العربية السورية"  منشوراً  على منصة فيسبوك يصف فيه تفاصيل ضربات يوم 5 أيلول/سبتمبر التي استهدفت تفتناز. وبحسب المنشور، نفذت طائرات من طراز ميغ عدداً من الضربات على المنطقة في ذلك اليوم، مستهدفة منازل المدنيين، ومسجد الرحمن، ومحطة للوقود، وغيرها من المناطق، وأدت إلى مقتل 14 شخصاً على الأقل.

وثمة تطابق بين كثير من أسماء الضحايا الواردة في المنشور، وما نشره مركز توثيق الانتهاكات. كما أكد المنشور أيضاً إصابة نحو 40 شخصاً جراء الضربات الجوية، مشيراً إلى خطورة بعض الإصابات.

وبالنظر إلى قوائم أسماء الضحايا التي أعدها الصحفيون ومراكز التوثيق، ومقطع الفيديو الذي وثق الضربات الجوية التي استهدفت المناطق السكنية/المدنية، فيرجح أن تكون الحكومة قد أغفلت وجود المدنيين في هذه المناطق عندما نفذت الهجوم على تفتناز. وعلى الرغم من أن المزاعم الواردة في الوثيقة تفيد بالقضاء على "120 إرهابيًّا"، فلم يكن بين الضحايا العشرين سوى مقاتل واحد، علماً بأنه جرى التحقق من أن بقية الضحايا هم من المدنيين. وعليه، وحتى إذا كانت الحكومة تستهدف ذلك المقاتل، فمن الواضح أن الهجوم لم يكن متناسباً مع الهدف المزعوم.

الواقعة الرابعة: جسر سراقب

يعرض أحد المقاطع المسجلة بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 آثار ضربة جوية نفذتها الحكومة على طريق رئيسي بالقرب من جسر سراقب بمحافظة إدلب، وأسفرت عن مقتل ثلاثة مدنيين بينهم طفل.

وحصل المركز السوري على وثيقة استخبارية مؤرخة في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، أي بعد يوم من الضربة الجوية، تزعم فيها الحكومة بأن سلاح الجو قد نفذ ضربات جوية على طريق دمشق-حلب قرب جسر سراقب، واستهدف فيها عدداً من تجمعات "الإرهابيين". وبحسب التقرير، أجهز الهجوم على "الكثير من الإرهابيين"، ودمر عدداً من مركباتهم ومنها "مركبتان مزودتان برشاشات ثقيلة من طراز دوشكا".

وتشير  تقارير  المصادر المفتوحة إلى أن الحكومة شنت الضربات الجوية على سراقب ذلك اليوم، إذ وثق اثنان من مقاطع الفيديو آثار تلك الضربات التي استهدفت موقعا على طريق دمشق-حلب بالقرب من جسر سراقب. وتطابق أوصاف موقع هذه الضربة المعلومات الواردة في الوثيقة، كما وثق مقطع  الفيديو  الدخان المتصاعد عقب استهداف ضربة جوية لطريق مجاور بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر، وسيارة محترقة ومدمرة بالقرب من ذلك الطريق. وقال مصور المقطع إن السيارة كانت تقلّ شخصين على ما يبدو، مع الإشارة إلى أن السيارة لم تكن مزودة بأي سلاح منصوب عليها.

وسجل مقطع آخر آثار ضربة جوية استهدفت طريق دمشق- حلب "الدولي" جنوبي سراقب في اليوم نفسه، وظهرت فيه المركبة وقد اشتعلت النيران فيها.

وحدد المركز السوري للعدالة والمساءلة الموقع الجغرافي لتلك الضربة. وتعرض الصور أعلاه وأدناه الموقع بالإحداثيات التالية: "35.83313580902222, 36.78536630634422".

كما وثق مركز توثيق الانتهاكات سقوط ثلاثة قتلى من المدنيين في الضربة، بينهم قاصر.

وأجرى فريق التوثيق التابع للمركز السوري للعدالة والمساءلة مقابلة مع شاهد من أبناء سراقب، والذي شارك في جهود إنقاذ مصابي الهجوم. وأوضح الشاهد أن طائرة من طراز ميغ 23 نفذت ضربة على طريق دمشق-حلب الدولي جنوبي سراقب بين الساعة 9 و10:30 من صباح يوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2013. واستهدفت الضربة مركبة مدنية تعود إلى عائلة من معربليت، كان على متنها رجل، وامرأة، وطفل. وأشار الشاهد أيضاً إلى أن طراز السيارة المستهدفة كان شائعا في المنطقة، وعادة ما يستخدمه المزارعون لأغراض زراعية. وقال الشاهد إنه من غير المرجح أن تكون تلك المركبة مزودة بسلاح رشاش يُنصب عليها، وإن الأسرة كانت تستقلها في طريقها إلى العمل على قطاف الزيتون ذلك الحين. وأضاف الشاهد أن ذلك الهجوم هو الوحيد الذي وقع على طول الطريق ذلك اليوم.

وعلى الرغم من زعم الوثيقة الحكومية بأن الهجوم استهدف إحدى الجماعات الإرهابية، وقتل إرهابيين، ودمر مركبتين مزودتين بالرشاشات الثقيلة، تشير الأدلة المتوفرة من خلال المصادر المفتوحة، وإفادات الشاهد، إلى أن المدنيين كانوا ضحايا ذلك الهجوم.

الخاتمة:

إن تعزيز الأدلة بالبرهان والربط بينها وبين الواقعة له أهمية بالغة في سياق إثبات ارتكاب الجرائم الدولية. ولم يقتصر توثيق الهجمات المشار إليها في هذا التقرير على مقاطع الفيديو وحسب، بل وشمل أيضا الاستدلال بوثائق حكومية محورية على صحة تلك المقاطع التي تمثّل إقرارا بحصول تلك الهجمات على النحو الموصوف. وعلى الرغم من محاولة الوثائق الحكومية التنصل من بعض جوانب المسؤولية عن ارتكاب تلك الجرائم، والدفع بأن الهجمات كانت بدافع مشروع، تثبت مقاطع الفيديو، وإفادات الشهود التي حصل عليها المركز السوري للعدالة والمساءلة أن تلك المزاعم عارية من الصحة. ويُعد محتوى هذا التقرير غيضا من فيض الأدلة المتوفرة بحوزة المركز السوري للعدالة والمساءلة، وغيره من المنظمات المعنية بتوثيق الانتهاكات، وسوف تكون له أهميته المحورية لثبوت المسؤولية الجنائية، وكشف حقيقة السياسات التي اتبعتها الحكومة السورية طوال فترة النزاع.